الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم. ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى {نحن قدرنا بينكم الموت} وفي الثانية {لو نشاء لجعلناه حطامًا} وفي الثالثة {لو نشاء جعلناه أجاجًا} ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال: {نحن جعلناها تذكرة} تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءًا من جهنم» {ومتاعًا} وسبب تمتع ومنفعة {للمقوين} للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئًا من أيام. وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله: {وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم} ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتًا فقال: {لو نشاء لجعلناه حطامًا} ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتًا لا ذاتًا ولهذا حذف اللام في قوله: {لو نشاء جعلناه أجاجًا} ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون (لو) بمعنى (أن) وذلك أن الماء باقٍ هاهنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهميًا فافهم. ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه. أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة. وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة. وفي قوله: {تذكرة} إشارة إلى ما قلنا. ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيهًا له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث، ثم عظم شأن القرآن بقوله: {فلا أقسم} أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد التأكيد. ومواقع النجوم مساقطعها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] وعن سفيان الثوري: إن الله تعالى ريحًا تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار. وقوله: {وأنه لقسم لو تعلمون عظيم} اعتراض فيه اعتراض. ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب. أو كرمه نفعه للمكلفين. أو هو كرامته على الله عز وجل {في كتاب مكنون} مستورًا على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح {لا يمسه} إن كان الضمير للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه {إلا} عبيده {المطهرون} من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث.ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضًا. وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم. ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال: {أفبهذا الحديث} أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن {أنتم مدهنون} متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه {وتجعلون رزقكم} أي شكر رزقكم {أنكم تكذبون} بالبعث وبما دل عليه القرآن، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله: {أفرأيتم ما تحرثون} إلى قوله: {للمقوين} وقيل: نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل وتنسبونه إلى النجوم. ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته. وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال: فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير {فلولا} التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله: {فلا تحسبنهم} بعد قوله: {لا تحسبن الذين يفرحون} [آل عمران: 188] ومنها تقديم الظرف وهو قوله: {إذا بلغت الحلقوم} أي النفس. وإنما أضمرت للعلم بها كقوله: {ما ترك على ظهرها} [فاطر: 45] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه. ومنها زيادة الجمل المعترضة وهي قوله: {وأنتم} يا أهل الميت {حينئذ تنظرون} إليه {ونحن أقرب إليه منكم} بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت {ولكن لا تبصرون} لا بالبصر ولا بالبصيرة. ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم. ومنها قوله: {إن كنتم صادقين} فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم متمنعين عن الموت، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس، والواو والميم زائدان، ووزنه (فعلوم) ويمكن أن يقال: إن فعل {فلولا} الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم. فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أيامًا معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة. ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير. ويحتمل عندي أن يكون الضمير في {ترجعونها} عائدًا إلى ملائكة الموت بدليل قوله: {ونحن أقرب} والمعنى فلولا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا.وحين بين أن لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلًا {فأما إن كان} المتوفى {من المقربين} أي من السابقين من الأزواج الثلاثة {فروح} أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن {وريحان} أي رزق وهذا للبدن {وجنة نعيم} وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر. ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه {وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك} أيها النبي {من أصحاب اليمين} أي أنت سالم من شفاعتهم. هذا قول كثير من المفسرين. وقال جار الله: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله: {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10] {إن هذا} القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة {لهو حق اليقين} أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين. وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى (من) كقولك (خاتم فضة) وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك (حق الحق). (وصواب الصواب) أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه. أو المراد هذا هو اليقين حقًا لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر. هذا ما قاله أكثر المفسرين. وقيل: الإضافة كما في قولنا (جانب الغربي) و(مسجد الجامع) أي حق الأمر اليقين. ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا (حق النبي أن يصلي عليه) و(حق المال أن تؤدى زكاته) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» أي إلا بحق هذه الكلمة. ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة. وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله: {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 92] وقال أهل اليقين: للعلم ثلاث مراتب: أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عيانًا فليس الخبر كالمعاينة، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحدًا. ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلأ من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين. روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: ما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أفلا ندعو الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: افلا نأمر بعطائك؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: تدفعه إلى بناتك. قال: لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرآن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبدًا». اهـ.
.قال الخطيب الشربيني: سورة الواقعة مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء؛ وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} وقال الكلبي: مكية إلا أربع آيات؛ منها آيتان {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} نزلتا في سفره إلى مكة؛ وقوله تعالى: {ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين} نزلتا في سفره إلى المدينة، وقدّمنا أنّ في المدني والمكي اصطلاحين، وأنّ المشهور أنّ المكي ما نزل قبل الهجرة؛ والمدني ما نزل بعدها وهي ست وتسعون آية؛ قال الجلال المحلي: وهي ست أو سبع أو تسع وتسعون آية وثلاثمئة وثمان وتسعون كلمة، وألف وسبع مئة وثلاثة أحرف.{بسم الله} الذي له الكمال كله ففاوت بين الناس في الأحوال {الرحمن} الذي عم بنعمة البيان وفاضل في قبولها بين أهل الإدبار وأهل الإقبال {الرحيم} الذي قرب أهل حزبه ففازوا بمحاسن الأقوال والأفعال.ولما قسم سبحانه الناس في تلك السورة إلى ثلاثة أصناف مجرمين وسابقين ولاحقين، شرح أحوالهم في هذه السورة وبين الوقت الذي يظهر فيه إكرامه وانتقامه بقوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة} أي: التي لابد من وقوعها ولا واقع يستحق أن يسمى الواقعة بلام الكمال وتاء المبالغة غيرها، وهي النفخة الثانية التي يكون عنها البعث الأكبر الذي هو القيامة الجامعة لجميع الخلق، فسميت واقعة لتحقق وقوعها، وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمحذوف مثل اذكر أو كان كيت وكيت، وقال الجرجاني: إذا صلة كقوله تعالى: {اقتربت الساعة} [القمر:].و {أتى أمر الله} [النحل:].وهو كما يقال: جاء الصوم أي دنا وقرب وقوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} مصدر بمعنى الكذب والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر كقوله تعالى: {لا تسمع فيها لاغية} [الغاشية:].أي: لغو والمعنى: ليس لها كذب قاله الكسائي، أو صفة والموصوف محذوف أي: ليس لوقعتها حال كاذبة، أي: كل من يخبر عن وقعتها صادق، أو نفس كاذبة بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا وقال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة أي: لا يردها شيء، وقيل: إنّ قيامها جد لا هزل وقوله تعالى: {خافضة رافعة} تقرير لعظمتها وهو خبر لمبتدأ محذوف أي: هي، قال عكرمة ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى يعني: أسمعت القريب والبعيد. وعن السدى خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين.وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله تعالى ورفعت أقوامًا إلى طاعة الله تعالى. وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى في النار ورفعت أولياء الله تعالى في الجنة. وقال ابن عطاء: خفضت قومًا بالعدل ورفعت آخرين بالفضل. ولا مانع أنّ كل ذلك موجود فيها والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعز والإهانة؛ ونسب سبحانه وتعالى الخفض والرفع إلى القيامة توسعًا ومجازًا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لا يمكن منه الفعل، يقولون: ليل قائم ونهار صائم وفي التنزيل: {بل مكر الليل والنهار} [سبأ:].والخافض والرافع في الحقيقة هو الله تعالى، واللام في قوله تعالى: {لوقعتها} إمّا للتعليل أي: لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدّة وقعتها، وإمّا للتعدية كقولك ليس لزيد ضارب، فيكون التقدير إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها أمر يوجد لها كاذب إذا أخبر عنه.قال الرازي: وعلى هذا لا تكون ليس عاملة في إذا وهي بمعنى ليس لها كاذب {إذا رجت الأرض} أي: كلها على سعتها وثقلها بأيسر أمر {رجًا} أي: حركت تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل، قال بعض المفسرين: ترتج كما يرتج الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها، والرجرجة: الاضطراب، وارتج البحر وغيره واضطرب وفي الحديث: «من ركب البحر حين يرتج فلا ذمة له». يعني إذا اضطربت أمواجه والظرف متعلق بخافضة أو بدل من إذا وقعت.
|